حتمية الصراع   Leave a comment

كان الفلاح المصرى يَعى ما يقول حين أطلق حكمته الخالدة “أنا واخويا على ابن عمى وأنا وابن عمى على الغريب”، إذ راسخة هى رسوخ الجبال تلك القاعدة على أى مستوى من العلاقات.. ففى الأسرة الواحدة قد تتشاجر مع أبيك أو أخيك، لكنكم حين تشعرون بالتهديد الخارجى تتحالف الأسرة فى مواجهته، ثم ما يلبث أن يزول حتى تعود المشاحنات مرة أخرى. ولولا خلو الأرض من عائلات منافِسة لما قتل قابيل أخيه لأنهما كانا سيتحالفان ضد الغرباء. وعندما يلحق تهديد دولة من الدول ينسى أفرادها ما بينهم من خلافات ويتَّحدون لمواجهة العدو الأجنبى حتى يزول، وعندما يلحق الخطر بمجموعة دول إقليمية تتجمع الدول معاً فى مواجهته حتى تتغلب عليها مهما كان بينها من خلافات قبل ظهوره (إلا اذا كانت دولاً عربية). وكأن الخلافات والصراعات حتمية، فهى لا تتوقف داخلياً إلا عندما تبدأ خارجياً

ونجد اليوم جميع دول العالم تقريباً تضطهد فئة معينة تختلف عما هو سائد عند أغلبية السكان فى صفةٍ ما سواءاً ظهر هذا الإضطهاد بطريقة رسمية فى شكل قوانين أو غير رسمية فى شكل أعراف، وإن كان يأخذ أشكال أقل عنفاً وفجاجة عما كان عليه فى الماضى. وتختلف الفئة المستهدَفة بحسب الظروف السياسية والثقافية، كما يختلف الحافز وراء الإضطهاد.. فإن كانت الدولة متعددة العرقيات فقد يكون الهدف هو توحيد الجبهة الداخلية ضد عدو داخلى أو خارجى حتى وإن كان وهمياً كبديل عن الفُرقة إضافة للسيطرة عليه وعلى موارده. وتمثل حروباً كثيرة قديمة (كمعظم الحروب الدينية) أو حديثة (كحربَىّ الخليج وغزو العراق وأفغانستان وما عاصرهم من أحداث) نماذج تجمع بين الحالتين قامت بها حكومة العراق ضد الشيعة والأكراد وضد الكويت، وقامت بها حكومة الولايات المتحدة ضد العراق وأفغانستان وضد المسلمين

والدول متجانسة العرقيات أيضاً ليست بمنأى عن هذه القاعدة.. فهى إما تحاول السيطرة على عدو خارجى بغية السيطرة على موارده وبسط نفوذها وإما يزيد التطاحن الداخلى بين أفرادها وإن كان على أساس غير العرق كالدين أو المستوى الإجتماعى أو التنافس “العادى” بين الشركات والأفراد للظفْر بالتميّز الذى يستحيل على الجميع الحصول عليه. بل إنه كثيراً ما يقوم صراع أو اضطهاد لا لشىء سوى لرغبة طرف قوى فى الشعور بالتميّز والأفضلية على طرف ضعيف، وهو تصرف نلاحظه فى السلوك الجماعى للحيوانات والأطفال. وكقاعدة عامة فإن انتشار سلوك بين الحيوانات والأطفال يعنى تجذره بقوة فى الطبيعية البشرية حتى وإن أخذ أشكالاً مستترة نسبياً عند الكِبار. وقد أظهرت تجربة مثيرة بأن شىء تافه كلون الملابس يتسبب فى إنقسام الناس إلى فريقين، فقد قام العلماء بإعطاء مجموعة من الناس ملابس زرقاء وأخرى ملابس حمراء فوجدوا أن كل فريق ينطوى على نفسه بعيداً عن الآخر بشكل شبه فورى! ولك أن تتخيل ماذا كان سيصير بين المجموعتين لو أن هكذا تجربة استمرت لسنوات أو قرون.

هذا ناهيك عن شبه استحالة وصول شخص طيب القلب ذو ضمير حى لمنصب قيادى أصلاً.. فتقلّد المناصب العليا يتطلب رغبة شديدة فى النجاح والتفوّق حتى وإن جاءا على حساب الضمير والحقوق، فالذى يتمسك بالأخلاق والقيم والرحمة تتم غربلته لصالح مَن عنده استعداد لغض الطرف عنها عند الضرورة. وبالتالى فإنّ امتلاء المناصب الهامة فى كافة الأمم والمؤسسات بهذه النوعية من الناس “العمليين” يمثل عنصراً إضافياً لتحتيم سيطرة هذه الأمم والمؤسسات على الأضعف منها عند توافر الفرصة. ولذا فلا عجب مِن كَون أكثر الناس وأكثر الدول نجاحاً هم فى ذات الوقت أكثرهم ظلماً واستبداداً. وهكذا فنجد أن “القوة” و”القيادة” تكاد تساوى “القسوة” و”التجبر” على مستوى الأمم والأفراد على السواء

وقد يبدو للقارىء النابه ثمة إستثناءاً لما نقول يتمثل فى الدول المتحضرة المسالمة تماماً مثل كندا والسويد وسويسرا وغيرها. لكن هذه الدول ما أمكن لها الوصول إلى ما وصلت إليه دون قَبْعها تحت مظلة من يحميها وهى الولايات المتحدة متولية زمام أمور العالم الغربى منذ الحرب العالمية الثانية والتى تملك قواعد عسكرية أو جنود فى أكثر من 150 دولة من أصل 207. فلو قُدّر لهذا العملاق أن يختفى من على الخارطة غداً فما هى إلا سنوات قليلة إلا ويبدأ التحرش الروسى أو الصينى بتلك الدول مما سيجبرها إما على الخضوع لسيطرة هذه القُوى وإما التعسكر والدخول فى صراع معها، وفى الحالتين سنكون قد عدنا للوضع الطبيعى مرة أخرى. ويمكن تشبيه هذه الدول بالمواطنين العاديين الساكنين بدولة عسكرية.. حيث لا يلزم أن يكون جميع أفراد الشعب مقاتلين كى تنطبق صفة العسكرة على البلد بأكمله

وبالطبع لا يلزم للصراع أن يأخذ شكل حرباً مباشرة، فها فهى الولايات المتحدة قد حاربت الشيوعية فى أمريكا اللاتينية مثلاً بالمخططات والمؤامرات وتمويل الإنقلابات والإغتيالات كما فعلوا فى البرازيل وتشيلى وجواتيمالا وغيرها مما تسبب فى صراعات داخلية للدول المستهدَفة لعل ضحاياها كانوا أكثر مِن ضحايا الحروب التقليدية. أما آخر ملحوظة تفسر السلام النسبى الحالى فهى أننا نعيش فترة رخاء شديدة الإستثنائية فى التاريخ البشرى أدت إلى سلام إستثنائى، لكن سرعان ما ستختفى فور نضوب بعض الموارد الطبيعية وأهمها النفط ليعود التصارع على الفتات مرة أخرى

كانت هذه مقدمة نظرية لما سنتحدث عنه المرة القادمة وهو التبعات الأخلاقية العملية لهذا الواقع. فبناءاً على ما سبق قد لا تكون بعض الأشياء التى تظن أنها سيئة بالسوء الذى تبدو عليه..

حسام حربى
https://ubser.wordpress.com

Posted جوان 16, 2012 by حسام حربى in صراع

أضف تعليق