من أساليب السيطرة على الشعوب: المقدسات والفزاعات   Leave a comment

“ماما.. عاوز ألعب مع القطة”
“القطة كخ.. هاتعضك يا حبيبى”

“ماما أنا زعلان من تيتة.. تيتة شريرة”
“عيب يا ولد.. تيتة طيبة”

لا يلخص هذان الحواران القصيران طريبقة تربية الأطفال فحسب، بل يمثلان طريقة تربية الكبار أيضاً. ففكرة تقديس شىء -سواءاً استحق هذا التقديس أم لا- وفكرة الترويع من شىء -سواءاً كان هذا الترويع فى محله أم لا- تستمران معنا طوال العمر وحتى القبر.

فكر يا عزيزى القارىء فى كل المبادىء والمنظومات والمؤسسات والأشخاص التى كبُرنا على تبجيلها منذ الطفولة وحتى المراهقة.. ستجد أن الأسرة تتولى زرع ولاءنا لما يَلى منذ نعومة أظافرنا:
-الأسرة والعائلة
الوطن
-الدين
-الأمانة
-الصدق

وبعد الطفولة تتولى الدولة -من خلال منظومتها التعليمية وبوقها الإعلامى- إضافة عناصر أخرى للقائمة، مثلاً فى حالة مصر:
الجيش
-القضاء
-الأزهر
-التعليم الرسمى
-الأمن القومى (بحسب تعريف السلطة له)

وبالمثل فكما يفزّعنا الأهل وقت الصِغر من القطط الضالة والطعام المتسخ والسيارات المارة، تتولى الدولة ومنتفعيها بعد الكِبَر إفزاعنا من أشياء أخرى.. وعلى سبيل المثال أيضاً فى حالة مصر:
الإرهاب (دون الإلتزام بالضرورة بتعريف الأمم المتحدة له “استخدام العنف ضد المدنيين لتحقيق أغراض سياسية”)
-حمل المواطنين للسلاح
-حماس وغزة

ونحن إذ نلفت النظر لهذه الظاهرة فنحن لا نتفق أو نختلف بالضرورة مع كل نقطة أعلاه، لكننا نلفت النظر إلى عنصرين دائماً ما يصاحبان حالات التقديس والتفزيع:

أولهما هو خدمة مصالح الجهة المروّجة. فعندما تحثك أمك على طاعتها فهذا يخدم مصالحها لئلا ترهقها فى تربيتك، وعندما يحثك أبيك على الصدق والأمانة فهذا يمنعك من خداعه أو سرقته، وعندما تحثك الدولة على احترام مؤسساتها فهذا يسهّل سيطرتها على فكرك وتصرفاتك ومواردك، وعندما يحثك رجل الدين على احترام النصوص وتفسيراته لها فهذا يؤهلك لاتباع فتاويه وآراءه.

هذا لا يعنى بالطبع أن تقديس هذه الكيانات لا يأتى بتأثير جانبى إيجابى على الفرد والمجتمع. فتبجيل الأهل فى الصغر ورعايتهم عند الكبَر يشجع الشباب على الزواج والإنجاب، والاستسلام لمؤسسات الدولة يجنب أهلها النزاعات والإقتتال الداخلى، كما أن إعلاء مبادىء الأمانة والصدق شرط ضرورى لتسيير المعاملات التجارية والاجتماعية، ولن نحتاج للخوض فى مناقب تبجيل الدين (أو ما يقوم مقامه من أيديولوجيا) إذ أن أى مجتمع لا يقوم دونه.

أما العنصر الثانى المصاحب احالات التقديس و التفزيع -والذى نود التركيز عليه اليوم- هو المبالغة. فبدون مبالغة لا يكون التقديس تقديساً ولا يكون التفزيع تفزيعاً. فالأم إن نهت طفلها عن اللعب مع القطط المريضة فقط فهى لا تكون قد خلقت فزاعة من القطط، بل تكون اشترطت شروطاً معينة وعقلانية تختفى باختفائها. ولو فرضت الدولة احترام الجيش إبان الحروب فقط (ففى أمريكا مثلاً يسمح القانون للحكومة بتقييد حرية التعبير وقت الحرب) لا تكون الدولة قد قدست الجيش. ولو أن القانون منع ذوى السوابق والإشتباه فقط من حمل السلاح لا يكون قد خلق فزاعة من تسلح المواطنين ومن عدم احتكار الدولة للسلاح. ولو أن السلطات تعاملت مع الإرهاب بصفته جريمة عادية مثلها مثل السرقة والقتل وتخريب الممتلكات لا تكون قد خلقت منه فزاعة بل تكون قد واجهته بصورة طبيعية وعقلانية.

لكن الطبيعية والعقلانية لا يخدمان مصالح الكبار. الكبار لا يريدونك أن تفكر وتزن المصالح والمفاسد.. بل يريدونك أن تخر ساجداً لما قدّسوه لك، وتهرع هارباً مما حذروك منه.

فى السنوات العشر اللاحقة لأحداث 11 سبتمبر زاد عدد الأمريكيين الذين يفضلون ركوب السيارات على الطائرات للسفريات القصيرة، ولأن ركوب الطائرة أكثر أماناً من ركوب السيارة فقد تسبب هذا السلوك اللاعقلانى فى زيادة عدد وفيات حوادث الطرق حتى تكاد تقترب هذه الزيادة اليوم من ضعف عدد ضحايا أحداث سبتمبر ذاتها[1]، بالإضافة للخسائر المادية والإختناق المرورى. هذا نموذج تقليدى للفزاعة.. فالأمريكيون ينامون ويستيقظون على نشرة أخبار تحذر من الإرهاب، أو فلم هوليوودى يخوّف من الإرهابيين، أو خطبة رئاسية تَذكر كيفية مكافحة الإرهاب، حتى خُيّل إليهم أن الإرهاب الذى لا يكاد يظهر ضحاياه على بيان إحصائى مقارنة بضحايا الجرائم الأخرى العادية (14 ألف جريمة قتل فى أمريكا سنوياً[2]) يهدد دولتهم بالفناء وحضارتهم بالدمار. صاروا يرون إرهابياً فى كل طائرة وقنبلة فى كل لحية ومخطط تفجيرى فى كل ميدان.. ونتيجة لردة فعلهم العنيفة من إجراءات أمنية داخلية وحروب خارجية وتصنت على الإتصالات إلخ لمواجهة هذا “التهديد” وصلت خسائر أمريكا المتحققة والمستقبلية من حربها على الإرهاب خمسة ترليونات دولار[3]، وهى خسائر ما كانت لتتحقق حتى لو تكررت هجمات سبتمبر مائة مرة. كل ذلك صنيعة فزاعة “الإرهاب” التى نجح الإعلام الأمريكى نجاحاً مدوياً فى نفخها والمبالغة فى أثرها بشكل يضاهى أساطير الشعوب القديمة حول الوحوش والعفاريت وأبو رجل مسلوخة.

فزاعة أخرى قد تحدثنا عنها باستفاضة فى مقالات سابقة هى “اضطهاد المرأة” التى اخترعتها المنظمات النسوية المتطرفة فى الغرب ومولت نشرها بسخاء مؤسسات حكومية وشبه حكومية بغرض إيجاد ذريعة لتدخل الدولة فى الحياة الشخصية للمواطنين وجبى مزيد من الضرائب “لمكافحة كارثة اضطهاد المرأة”. وقد ظلوا يكررون ويبالغون فى الأمر حتى وصل الحال اليوم إلى اشمئزاز معظم الغربيين من مجرد فكرة تستر المرأة عن الرجال الغرباء أو مكوثها فى المنزل لرعاية أبنائها أو عدم تأخير زواجها، وما كان ذلك ليحدث أبداً لولا فزاعة اضطهاد المرأة وتقديس مساواتها بالرجل والتى ملأ الإعلام بهما رؤوس الغربيين طيلة ما يقرب من قرن من الزمان.

ويلحق بقطار المقدسات فكرة مجانية التعليم.. فلربما كانت فكرة طيبة أن تتولى الدولة تعليم الحد الأدنى من المهارات الأساسية كالقراءة والكتابة والحساب للأطفال لأهمية ذلك للطفل والمجتمع معاً، لكن التقديس والمبالغة يظهرا فى تولى الدولة مسؤولية التعليم حتى يصل المواطن لسن العشرين بل يزيد. ومرة أخرى نجد المصلحة متجذرة فى هكذا تقديس، فبإقناع الجماهير بضرورة تلك السياسة تسيطر الدولة على عقول الأطفال والشباب لأطول فترة ممكنة، مما يمكنها من زرع -أو نزع- فيهم ما تشاء من أفكار وتوجهات، كما توظّف على حس هذه المهمة المقدسة جيوشاً جرارة من التربويين والإداريين الذين عادة ما يكون ولاءهم لها.. فمعروف أن موظف الحكومة لا يثور لخوفه على رزقه. وما كان الشعب ليقبل بهذا النظام الباهظ مالياً وسياسياً إلا بسبب تقديس سياسة مجانية التعليم.

وقطاع غزة ليس ببعيد عن الفزاعات التى تحذر منها الحكومة المصرية بشتى الذرائع التى تصل للكوميديا أحياناً. وقد أوضحنا فى مقالنا الأسبق “ثمانية أكاذيب” استحالة خلق القطاع لأزمة سولار وكهرباء لمصر بسبب قلة عدد سكانه (1.7 مليون) وانخفاض مستوى دخلهم الشديد (1200 دولار سنويا)، كما خضنا فى مقال “هجوم رفح.. إدينى عقلك” فى استحالة قيام حركة حماس بهجوم رمضان على الجنود المصريين، وهى تهمة مِن أهم الأدوات الإفزاعية المستخدمة ضد حماس حتى وإن افتقرت إلى دليل واحد. وإضافة إلى ذلك فيُتهم مَن يعترض على نزع سلاح البدو -وهم درع سيناء منزوعة السلاح- بالإساءة فى حق المقدس الجديد المُسمى بالأمن القومى.

أما أحدث الفزاعات على الساحة المصرية وبعض الساحات العربية فهى “الأخوَنة”، والحقيقة أن المرء ليعجز عن الرد على أكاذيب الإعلام فى هذا الشأن.. وحسبُنا ما رصده النشطاء من الـ24 كذبة المسيئة للإخوان فى مختلف وسائل الإعلام خلال 24 ساعة فقط فى يناير الماضى[4]، علماً بأن هذا المعدل المعقول (كذبة واحدة فقط كل ساعة) كان قبل الإنقلاب وقبل إغلاق المحطات الإسلامية التى كانت ترد بوجهة النظر الأخرى.

وكما اعتدنا يا عزيزى القارىء فى باب حيَل الإعلام أن نذكر كيفية مقاومة كل حيلة فسنقترح اليوم طريقة لطيفة لاكتشاف الفزاعات والمقدسات.. وهى أن تتساءل -عند تقييم سياسة من السياسات- ما سيكون عليه رأى إنسان بدائى يعيش فى الغابة منذ آلاف السنين فيها. فهل سيوافق هكذا رجل على قلب الغابة رأساً على عقب بسبب بضعة جرائم تخريبية يقف وراءها مجهولون؟ أم تراه سيوافق على قصف الأطفال[5] وتصوير مواجهات وهمية واقتحامات مفبركة[6] لإقناع العامة بوجود مجرمين لا وجود لهم؟ هل سيستسلم لاحتكار رئيس القبيلة ورجاله للأسلحة دوناً عن باقى أفرادها تحت ذريعة حفظ الأمن ومنع الجرائم؟ هل سيرضى عن السعى الهستيرى لحرمان حلفائهم من القبيلة المجاورة من السلاح بل ومن الطعام؟ هل سيقر اقتطاع شيخ القبيلة ما يقارب من خُمس ميزانية القبيلة لتلقينهم علماً لا ينفع وجهلاً لا يضر؟ أم هل سيقبل بتدخل مجلس حكماء القبيلة فى كل صغيرة وكبيرة بينه وبين زوجته حتى يصل الأمر لفراش الزوجية وحق حضانة الأطفال إبان الطلاق؟ وقِس على ذلك أى سياسية شمولية أخرى تأكل من حق الفرد لصالح السلطة المركزية..

بالطبع لا، لن يقبل رجلنا الحُر بأىٍ من ذلك. لكن ليس لأنه ذكى أو خبير بالمؤامرات التى يحيكها الكبار فى الخفاء، بل ببساطة لأنه لم يكن قد تعرض بَعد لما تعرضت له سلالته من غسيل مخ فى العصر الحديث.. عصر المقدسات والفزاعات.

حسام حربى – مدونة «أَبْصِرْ»
https://ubser.wordpress.com

المصادر
[1]https://www.schneier.com/crypto-gram-1309.html#12
[2]https://en.wikipedia.org/wiki/Crime_in_the_United_States
[3]http://nation.time.com/2011/06/29/the-5-trillion-war-on-terror/
[4][25]http://www.klmty.net/2013/01/24-24.html
[5]https://www.youtube.com/embed/TMBb4P4-uGc?rel=0
[6]https://www.youtube.com/watch?v=HKjxZJ2AK44

Posted سبتمبر 20, 2013 by حسام حربى in حيَل الإعلام

أضف تعليق