الحق = القوة   1 comment

فور انتصار أحدهما ستصاغ مبررات أيديولوجية تجعل ما حدث “صواباً” و”عدلاً”

تخيل يا عزيزى القارىء جزيرة يعيش بها شخصان.. أحدهما مبصر والآخر أعمى. قرر الأعمى فى يوم من الأيام سرقة أحد عينا المبصر ليرى بها ونجح فى ذلك بالفعل. ما تحليلك لما حدث؟ قد يرى أحد القراء هذه خطوة إيجابية إعلاءاً لفكرة “المساواة”، إذ أن العدالة قد تحققت لأن الأعمى لا ذنب له فى عماه والمبصر لا فضل له فى بصره. بينما يرى آخر ما حدث ظلم وجريمة إعلاءاً لفكرة “عدل الوضع القائم” أو “عدل التوزيع الإلهى”، إذ ليس من حق الأعمى سرقة عين المبصر مهما كانت الظروف. وقد يرى ثالث ما حدث صواباً من باب “تعظيم المنفعة الكلية”، إذ أن الإثنين صار عندهما القدرة على الرؤية الآن بعدما كان أحدهما مبصراً والآخر أعمى تماماً. بينما سيرفض مؤيدو مبدأ “البقاء للأصلح” هذا التبرير باعتبار العمى مرض وعبء على المجتمع يجب ترك الطبيعة تتخلص من حامليه من أجل مصلحة البشرية على المدى البعيد وإلا سببنا مزيداً من التعاسة.

لكن هناك فكرة أخرى أشمل كثيراً.. وهى عدم وجود “صواب” و”خطأ” ولا “عدل” و”ظلم” أصلاً! ولذا فلا عجب من حيرتنا فى تحليل ما حدث. المسألة ببساطة أن ما جرى كان جيداً من وجهة نظر الأعمى وسيئاً من وجهة نظر المبصر، وأيضاً جيداً من وجهة نظر “الطاقة البصرية الكلية لسكان الجزيرة”. أى أنه لا يوجد فى الحقيقة معيار موضوعى يمكننا الإستناد عليه للحكم على صحة أو خطأ التصرف دون إعتبار وجهة نظر المقيّم. فإن فرضنا وجود زوجة للأعمى مثلاً فمن الطبيعى أن ترى ما حدث إيجابياً وعادلاً، أما زوجة وأصدقاء المبصر فسيعتبرون ما حدث جريمة وسرقة الخ، وإن كان هناك حاكم لهذه الجزيرة فقد يرفض ما حدث بإعتباره زاد من التوتر الذى يتسبب فى مشاحنات تقض مضجع الحاكم وتزعجه وتتسبب فى لومه بعدم قدرته على حفظ الأمن. أى أنه فى النهاية هناك مبدأ معين مثل “المساواة” أو “الصبر على البلاء والرضا بالقدر” أو “ترك قوى الطبيعة” أو “تعظيم المنفعة الكلية” أو “حفظ السلم الإجتماعى” الخ سيتم إعطاؤه قدسية وأولية فوق كل المبادىء الأخرى ثم يقاس عليه مدى صحة أو خطأ التصرف.

لكن مَن يا ترى سيحظى بحق تحديد هذا المبدأ؟ بالضبط.. إنه الطرف الأقوى! فما سيحدث بعد هذه الحادثة هو مشادة قد تتطور إلى مشاجرة قد تتطور إلى اقتتال تحدد نتيجته مدى شرعية ما حدث وتُسطِّر دستوراً تسير عليه الجزيرة لحين بروز صراع جديد بنتيجة مختلفة.

وما نيل المطالب بالتمنى    ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

ولذا فالأفكار المجردة كالصواب والخطأ والعدل والظلم -عملياً- لا وجود لها ولا معنى، ويختلف تعريفها بحسب مصالح المتحدث عنها. بل إن بعض التحليلات الإجتماعية المتعمقة ترى أن منع الآباء أطفالهم من الكذب والسرقة مثلاً إنما جاء ترسيخاً واستكمالاً لبسط نفوذهم عليهم.. فلأن الآباء يحتكرون كل الموارد المادية فكل ما يتبقى لهم لضمان السيطرة التامة على الأطفال هو منع إخفاء المعلومات (الكذب) ومنع تسرب الموارد (السرقة)، وعند تحقيق ذلك بكفاءة يفقد الأطفال كل أسلحتهم لمواجهة قوى الآباء. وعندما يكبر الأطفال تستمر نفس القواعد لكن يتقمص دور الآباء هنا ذوى النفوذ والثروة فى المجتمع بينما يتقمص دور الأطفال الفئات الأضعف. والممتاز فى هذا التحليل هو نظرته المتوازنة للكذب والسرقة.. فهما ليسا خيراً محضاً ولا شراً محضاً دون اعتبار وجهة نظر المقيِّم أهو الطرف القوى أم الضعيف؟ والسبب فى عدم سماعنا مثل هذا الكلام فى اعتراف علنى من أحد أبداً أنه سيكون بمثابة تشجيعاً لنا منه على أذيته أو اعترافاً منه برغبته فى أذيتنا!

ورغم ذلك فهناك فكرة فلسفية ممتازة من الناحية النظرية لتحقيق العدل الحقيقى، وهى أن نتخيل حين نضع القوانين والقواعد التى تسير المجتمع أننا سنموت فور وضعها ثم نُبعث فى جسد أى شخص.. وبالتالى سنتحرى جميعاً الحياد فى القوانين التى سنضعها فلن نظلم الغنى ولا الفقير ولا الصحيح ولا المريض ولا الرجل ولا المرأة لأننا لا نعرف فى أى جسد سنُبعث. لكن مشكلة تلك الفكرة بالطبع هى إستحالة تطبيقها عملياً لأننا نعلم أنها مجرد تخيل.. فإن سألنا الغنى ما رأيك بمستوى الضرائب العادل علماً بأنك ستموت فور إقرار نسبة ما ثم تبعث غنياً أو فقيراً سيؤكد لك أنه يراه 1% مثلاً والعكس بالنسبة للفقير الذى سيرفض الملكية الخاصة بالكلية، وإن سألنا المرأة عن رأيها فى حقوق المرأة العادلة علماً بأنها لا تضمن إن كانت ستبعث فى جسد رجل أم امرأة ستقسم لك أنها ترى من حقها خلع زوجها وأخذ أمواله وشقته وحضانة الأطفال والعكس صحيح بالنسبة للزوج.

إذاً بعيداً عن الفلسفة النظرية فعلى أرض الواقع الحياة مجرد صراع.. فإما أن تُفترس الغزالة وإما أن يتضور الأسد جوعاً، ولا يوجد حل “عادل” لهذه المعضلة، بل إن أسرعهما فى الجرى سيقضى على الآخر. ونفس القاعدة تنطبق على البشر الذين ينتهى أى صراع بينهم بفرض الفئة الأقوى أو الأكثر تنظيماً لوجهة نظرها فى تعريف “العدل” و”الظلم” و”الصواب” و”الخطأ” على الفئة الأضعف، حيث تُستخدم هذه المصطلحات كعملية تجميل وتحصيل حاصل لنتيجة حُسمت بالفعل لحظة تحديد المنتصر والمهزوم فى الصراع. وباختصار.. فـ”الحق” هو “القوة” متجملة بقناع فكرى.

حسام حربى
https://ubser.wordpress.com

Posted جويلية 14, 2012 by حسام حربى in صراع

أضف تعليق